الفرق بين التربية وبين التعليم:
التعليم يتعلق أكثر ما يتعلق بالرءوس، والتربية تتعلق أكثر ما تتعلق بالنفوس، ولا يكفى أن تحشو رأسك بالمعارف والمعلومات، إذا لم يكن وراء هذه الرأس نفس، نفس زكيّة.
صلاح الأفراد والمجتمعات:
الأمم إنما تتغيّر بتغيّر أنفسها، فصلاح المجتمعات بصلاح أفرادها، وصلاح الأفراد بصلاح أنفسها، الماركسيون أو الشيوعيون عندهم قاعدة تقول: (غيّر الاقتصاد، أو غيّر علاقات الإنتاج يتغيّر التاريخ)، ونحن المسلمين نقول قاعدة أخرى (غيّر نفسك يتغيّر التاريخ)، أو بالتعبير القرآنى غيّر ما بنفسك يتغيّر التاريخ، وذلك أنَّ الله تعالى قرر هذه القاعدة النفسية الاجتماعية الأساسية، حينما قال عز وجل: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11)، لهذا كان تغيير النفس أمرا أساسيا، لا يكفى أن تحشو رأسك بالمعلومات إذا لم تُزك نفسك، فلاحك فى الدنيا والآخرة مرهون بتزكية النفس، والقرآن الكريم يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا < فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا < قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا < وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7-10).
التعليم والتزكية من مهمّة النبى صلى الله عليه وسلم:
كان من شُعَب رسالة النبى صلى الله عليه وسلم، التعليم والتزكية، كما جاء ذلك فى أربع آيات من كتاب الله، فى سورة البقرة وآل عمران والجمعة، فى سورة البقرة سيدنا إبراهيم يدعو ربه فيقول: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة: 129)، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون} (البقرة: 151)، وفى سورة آل عمران يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164)، وفى سورة الجمعة يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2)، يزكّيهم ويعلّمهم.
التزكية فى اللغة العربية:
والتزكية أمر أخص من التعليم، وأعمق من التعليم، فالتزكية فى اللغة العربية، مأخوذة من زكا، ومعنى زكا أى طهُر ونما، و(الفقهاء) حينما يُعرّفون الزكاة يقولون: الزكاة فى اللغة: الطهارة والنماء، فمعنى (يزكيهم): يطهرهم وينمِّيهم، يطهرهم من الشرك، وينمِّيهم بالتوحيد، يطهّرهم من النفاق، وينمِّيهم بخصال الإيمان، فهو تطهير وتنمية، كما قال (الصوفية): تخلية وتحلية، تخلية من الرذائل، وتحلية بالفضائل، فهو صلى الله عليه وسلم مزكٍّ ومعلم.
فى البلاد العربية كانت الوزارات التى تقوم على التعليم تسمى قديما: (وزارات المعارف)، ثم وجدوا أنَّ المعرفة وحدها ليست كافية، وأنَّ مهمتها يجب أن تكون أشمل وأعمق من هذا، فغيَّروها إلى (وزارات التربية)، فالمهم أن تربى الإنسان لا أن تحشو رأسه وذهنه بالمعلومات والمعارف فقط، لهذا كنا فى حاجة إلى التربية عموما، والتربية الإسلامية خصوصا، فنحن لسنا فى حاجة إلى أى تربية، نحن فى حاجة إلى تربية إسلامية، تربية قائمة على أساس الإسلام، تستمدّ أصولها من مصادر الإسلام، من القرآن والسنة أساسا، ومن شروح القرآن والسنة، من أئمة الأمة الثقات، وعلمائها الربَّانيِّين الراسخين فى العلم.
التربية ضرورية لتنهض الأمة وتقوم برسالتها:
نحن فى حاجة إلى هذه التربية، لا يمكن أن تنهض أمتنا، وتقوم بعبء هذه الرسالة، التى كلفها الله بالعمل بها والعمل لها، والدعوة إليها والجهاد فى سبيلها، لا يمكن أن تقوم بكل ذلك إلا زُكّيتْ ورُبِّيتْ تربية سليمة قويمة، كما فعل إمام المربين، ورسول رب العالمين، محمد صلى الله عليه وسلم، وخير التلاميذ الذين تربوا فى المدرسة المحمدية، وتخرّجوا فى الجامعة النبوية، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين هم مربو الأمم، فالله تعالى هو الذى ربّى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى أدَّبه فأحسن تأديبه، وعلَّمه فأحسن تعليمه، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل: 6)، وكما قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم: 5).
تلاميذ المدرسة المحمدية:
فربَّى الله رسوله ليُربّى به الصحابة، ثم ربّى الصحابة الأمم بعد ذلك، وهذا الجيل النموذجىّ، الجيل المثالىّ، هو خير الأجيال، أفضل التلاميذ، خير القرون، كما صح فى الحديث: عن عبد الله بن مسعود رصى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتى القرن الذين يلونى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (متفق عليه).
فهم خير الأجيال، ويليهم فى الخيرية، الجيل الذى تربى على أيديهم وأخذ منهم، ثم الجيل الذى بعد ذلك، فالصحابة هم الجيل المثالى الذى تربى فى المدرسة المحمدية، فإذا أردنا التربية كما يحبها الله ورسوله، كما ينشدها الإسلام، فلننظر إلى المربى محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى تلاميذ هذه التربية وخريجيها، وهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، الذى أثنى الله عليهم فى كتابه، فى أواخر سورة الأنفال بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الأنفال: 72)، وفى سورة التوبة، بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100)، وفى أواخر سورة الفتح، بقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (الفتح: 29)، وفى سورة الحشر، بقوله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} (الحشر:
.
وأثنى عليهم النبى صلى الله عليه وسلم فى أحاديثه، فهم الذين نقلوا إلينا القرآن، ورووا لنا السُنن، وهم الذين نشروا الإسلام فى العالم، لولاهم ما دخلنا نحن الإسلام، لولا الصحابة الذين حملوا المصاحف فى أيديهم، وذهبوا بالإسلام إلى آفاق العالم، ما عرفنا نحن الإسلام، لولا همة عمرو بن العاص ومن معه من الصحابة، ما عرفنا نحن المصريين الإسلام، ولولا عقبة بن نافع ما عرفت إفريقيا الإسلام، وهكذا، فهؤلاء هم التلاميذ.
نحن فى حاجة إلى أن نعرف التربية الإسلامية المحمدية، والحديث عن التربية الإسلامية يطول ويطول، فنحن فى حاجة إلى أن نتحدث عن المربِّى، ونتحدث عن المربَّى، ونتحدث عن المربَّى له، أى عن أهداف التربية، ونتحدث عن المربَّى به، أى عن وسائل التربية وأساليبها، وعن أنواع التربية المختلفة، وكل هذا حديث يطول، وإنما أحببتُ أن أحدثكم عن أهم وأبرز خصائص التربية الإسلامية كما ينشدها هذا الدين العظيم.